الوسيط الروحي ( نقل الجن من جسد الى جسد آخر )
دخول الجني بدن الإنسي أمر مقرر ثابت ، متفق عليه بين سلف الأمة وأئمتها ، وقد سبق بيان ذلك بدلائله في جواب السؤال رقم : (1819) .
إلا أن هذه المسألة أدخل فيها الناس ما ليس منها ، واكتنفها الكثير من البدع المحدثة ، واجتهد فيها من ليس أهلا للاجتهاد ، ولا يزال الناس يتوسعون فيها شيئا فشيئا حتى أتوا بما لا يحتمل ، ووقع كثير منهم في البدع والضلالات ، بل ربما وصل الأمر ببعضهم إلى الوقوع في الشركيات ، والعياذ بالله .
ولابد لنا من معرفة عدة أمور ، هي بمثابة ضوابط أساسية لهذه المسألة ، فمنها :
- أن عالم الجن من عالم الغيب ، والغيب كله لله ، ولا يجوز لأحد أن يتكلم في الغيب أو يخوض فيه إلا بالدليل الواضح والبرهان البين .
- أن الأصل في الجن الكافر أنه كذوب ، فإذا ادعى أنه أسلم لم يكن هناك ما يدل على إسلامه إلا مجرد دعواه ؛ بل إن الصدق يقال : أنه لا سبيل لنا إلى معرفة المسلم الحقيقي – الأصلي- منهم ، دع دعاوى من يدعي أنه تاب وأسلم ؛ فهيهات لنا أن نقف على حقيقة ذلك .
- وكذا إذا ادعى أنه خرج من بدن الإنسي ، فلا يمكن التحقق من ذلك بمجرد هذه الدعوى ، ولا بما قد يظهر على المريض من مظاهر العافية ، فإن منهم من يستكين فيه ، ويخنس ، ولا يزعجه ، فيظن الناس أنه خرج منه ، فإذا ادعى مع ذلك أنه أسلم ، ولن يضر أحدا بعد ذلك صدقوه ، وهو في الحقيقة كذوب أثيم .
وكثيرا ما تجد المعالج يخاطب الجني ويكلمه ، ويسأله عن أشياء غيبية فيخبره ، فيظن المسكين أنه يصدقه ولا يكذبه ، وأنه يطلع على بعض الغيب .
ومنهم من يستفسر من الجني عن حال الملبوس ، ومن لبسه ، وكم عددهم ، ويسأله عن أسمائهم ، ومللهم ، فيخبره ، فيصدقه الراقي ، وهو كذوب .
- العلاج من مس الجن وصرعه إنما يكون بالطرق الشرعية التي لا تدخلها البدعة ولا الخرافة ، فضلا عن الشرك والاستعانة بالجن .
قال الشيخ ابن باز رحمه الله :
" العلاج لجميع الأمراض وأنواع الصرع وغيره إنما يجوز بالطرق الشرعية والوسائل المباحة ، ومنها القراءة على المريض ، والنفث عليه بالآيات والدعوات الشرعية " انتهى من " فتاوى إسلامية " (1/30) .
فمن زعم أنه ينقل الجنى من بدن المصاب إلى ما يسميه بالوسيط ، فليس معه إلا مجرد زعمه ، ومن أين له أنه انتقل من هذا البدن إلى ذاك ؟ وما يدريه ، لعل الوسيط قد لبسه جني آخر ، وهو - لغفلته - يظن أنه الأول .
ومن قال لهؤلاء أن قراءة القرآن والدعاء وسيلة لنقل الجني من بدن إلى بدن ؟!
ومن سلفهم في ذلك ؟
ثم : هل هذا الوسيط سيحتاج إلى رقية أخرى ، ووسيط آخر ، لإخراج الجن منه ؟ أم سيبقى متلبسا به ؟ أم سيخرج من غير وسيط ؟
ليس من شك في أن مثل هذا التصرف : لا أصل في الشرع ، ثم يقبله عقل سليم .
ثم ما هي الفائدة المرجوة من نقل الجني إلى بدن الوسيط ، إلا ما توهموه ورسموه من منفعة ، وهي منفعة موهومة ، وقد يقع بتحصيلها أنواع من الشرك والبدعة .
ودعواهم أنهم تمكنوا من القبض على الجني ، وأنهم دعوه للإسلام فأسلم ، لا دليل عليه إلا مجرد الدعوى في أمر غيبي ، لا يطلع عليه إلا الله ، فهي دعوى فاسدة .
وسؤالهم الجني عن أمور غيبية من الشرك بالله ، إذ لا يعلم الغيب إلا الله .
فقد سئل علماء اللجنة : " هل الجن يعلمون الغيب؟ " .
فأجابوا :
" علم الغيب من خصائص الربوبية، فلا يعلم غيب السماوات والأرض إلا الله ، قال تعالى : ( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ) ، وقال جل جلاله : ( قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ ) ، والجن لا يعلمون الغيب ، والدليل قوله تعالى : ( فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ ) ، فمن ادعى علم الغيب فهو كافر ، ومن صدق من يدعي علم الغيب فهو كافر أيضا؛ لأنه مكذب للقرآن " انتهى من " فتاوى اللجنة الدائمة - المجموعة الثانية " (2/6) .
وهذا الذي يفعلونه هو من جملة استمتاع الجن بالإنس ، والإنس بالجن ، قال تعالى : ( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا ) الأنعام/ 128 .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" قَالَ البغوي : قَالَ بَعْضُهُمْ : اسْتِمْتَاعُ الْإِنْسِ بِالْجِنِّ مَا كَانُوا يُلْقُونَ لَهُمْ : مِنْ الْأَرَاجِيفِ وَالسِّحْرِ وَالْكَهَانَةِ وَتَزْيِينُهُمْ لَهُمْ الْأُمُورَ الَّتِي يُهَيِّئُونَهَا وَيَسْهُلُ سَبِيلُهَا عَلَيْهِمْ، وَاسْتِمْتَاعُ الْجِنِّ بِالْإِنْسِ طَاعَةُ الْإِنْسِ لَهُمْ فِيمَا يُزَيِّنُونَ لَهُمْ مِنْ الضَّلَالَةِ وَالْمَعَاصِي.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: هُوَ طَاعَةُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضِ وَمُوَافَقَةُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا.
وَتَارَةً يَخْدِمُ هَؤُلَاءِ لِهَؤُلَاءِ فِي أَغْرَاضِهِمْ ، وَهَؤُلَاءِ لِهَؤُلَاءِ فِي أَغْرَاضِهِمْ ، فَالْجِنُّ تَأْتِيهِ بِمَا يُرِيدُ مِنْ صُورَةٍ أَوْ مَالٍ أَوْ قَتْلِ عَدُوِّهِ ، وَالْإِنْسُ تُطِيعُ الْجِنَّ .
وَمِنْ اسْتِمْتَاعِ الْإِنْسِ بِالْجِنِّ : اسْتِخْدَامُهُمْ فِي الْإِخْبَارِ بِالْأُمُورِ الْغَائِبَةِ ، كَمَا يُخْبَرُ الْكُهَّانُ ، فَإِنَّ فِي الْإِنْسِ مَنْ لَهُ غَرَضٌ فِي هَذَا ؛ لِمَا يَحْصُلُ بِهِ مِنْ الرِّيَاسَةِ وَالْمَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ .
وَمِنْ اسْتِمْتَاعِ الْإِنْسِ بِالْجِنِّ: اسْتِخْدَامُهُمْ فِي إحْضَارِ بَعْضِ مَا يَطْلُبُونَهُ مِنْ مَالٍ وَطَعَامٍ وَثِيَابٍ وَنَفَقَةٍ؛ فَقَدْ يَأْتُونَ بِبَعْضِ ذَلِكَ وَقَدْ يَدُلُّونَهُ عَلَى كَنْزٍ وَغَيْرِهِ " انتهى ملخصا من " مجموع الفتاوى " (13/80-84) .
وقال الشيخ عمر سليمان الأشقر رحمه الله :
" أحياناً تأتي الشياطين لا بطريق الوسوسة ؛ بل تتراءى له في صورة إنسان ، وقد يسمع الصوت ، ولا يرى الجسم ، وقد تتشكل بصور غريبة ... وهي أحياناً تأتي الناس وتعرفهم بأنها من الجن ، وفي بعض الأحيان تكذب في قولها ، فتزعم أنها من الملائكة ، وأحياناً تسمي نفسها برجال الغيب ، أو تدعي أنها من عالم الأرواح ....
وهي في كل ذلك تحدث بعض الناس ، وتخبرهم بالكلام المباشر ، أو بوساطة شخص منهم يسمى الوسيط ، تتلبس وتتحدث على لسانه ، وقد تكون الإجابة بوساطة الكتابة ...
وقد تقوم بأكثر من ذلك ، فتحمل الإنسان ، وتطير به في الهواء ، وتنقله من مكان إلى مكان ، وقد تأتي له بأشياء يطلبها ، ولكنها لا تفعل هذا إلا بالضالين ، الذين يكفرون بالله ربّ الأرض والسماوات ، أو يفعلون المنكرات والموبقات....
وقد يتظاهر هؤلاء بالصلاح والتقوى ، ولكنهم في حقيقة أمرهم من أضلّ الناس وأفسقهم ، وقد ذكر القدامى والمحدثون من هذا شيئاً كثيراً ، لا مجال لتكذيبه والطعن فيه ؛ لبلوغه مبلغ التواتر " انتهى من " عالم الجن والشياطين " (ص93) .
بل إن فكرة " الوسيط " هذه ، هي في أصلها متلقاة عن دعوة ملاحدة " الروحية " الحديثة ، الذين يزعمون أنهم قادرون على الاتصال بعالم الغيب ، وتحضير الأرواح ، عن طريق هذا الشخص " الوسيط " .
وقد تحدث باستفاضة عن دجلهم ، وألاعيبهم : الدكتور محمد بن محمد حسين رحمه الله في كتابه " الروحية الحديثة " ، ويمكن الرجوع إليه لمزيد الفائدة ، وقد نقل كثيرا من مقاصده الشيخ الدكتور : عمر سليمان الأشقر رحمه الله ، في كتابه : " عالم الجن والشياطين " .
والحاصل : أن هذه الفكرة المذكورة : ليس لها أصل في الطرق الشرعية للرقية ، بل مبدؤها من ضلالة الملاحدة " الروحيين " المحدثين ، في حيلهم وأكاذيبهم في " تحضير الأرواح " .
والله أعلم